{دولية: الفرات نيوز} في أحد مشاهد المسلسل التليفزيوني "شتيزل"، يظهر رجل ملتح يصطحب ابنه الذي بلغ سن التكليف في أول رحلة له إلى المدينة، حيث توجد المدرسة الدينية اليهودية لتدريس التوراة والتلمود. وكلاهما يرتدي القبعة السوداء ذات الحواف العريضة وتتدلى خلف أذني كل منهما الخصلتان الطويلتان اللتان تميزان الأصوليين اليهود المتزمتين.
ولم يكن قد سبق للصبي الخروج من المجتمع المنعزل الذي يعيش فيه، ومن الواضح أنه كان مأخوذا بالمشاهد التي رآها في المدينة وأثناء ركوبه الحافلة، ولا سيما النساء الكاشفات عن سيقانهن والمرأة التي ترضع طفلها.
ثم قال له والده: "عندما كان جدك يصحبني إلى المدينة وأنا في مثل سنك، كان يخلع نظارته ويضعها على عيني. وبهذا لن يرى هو شيئا ولا أنا. فما رأيك لو جربنا ذلك؟"
ويصور المسلسل الإسرائيلي "شتيزل" حياة أسرة من طائفة الحريديم، تعيش في حي يقطنه اليهود المتزمتون في القدس. كما تتضمن الحلقات مشاهد لعائلة تصارع من أجل التمسك بالقيم والشرائع السائدة في هذا المجتمع، مثل هذا المشهد بين الأب وابنه، كذلك تزخر بالمشاهد الرومانسية العابرة بين الابن الأصغر الأعزب في العائلة وبين امرأة تكبره سنا وترملت مرتين، أو بالتحديات التي تواجهها اخته لإعالة أطفالها الخمسة بعد أن تخلى عنهم زوجها فجأة.
وجمع المسلسل بين عناصر عديدة غير معهودة، إذ تعرّض لقضايا فكرية جادة بلمسات ساخرة، ويدور حول أسرة أصولية متشددة تعيش في مجتمع منعزل ثقافيا يخلط ما بين اللغة العبرية واليديشية. ورغم ذلك حقق نجاحا ساحقا.
ولعل البداية كانت في إسرائيل، حيث لاقى المسلسل قبولا واسعا بين الإسرائيليين حتى المتزمتين منهم الذين لا يملكون عادة تلفازا، ولا يشاهدون المسلسلات، إذ ذكروا أنهم كانوا يتابعون حلقاته عبر الإنترنت. ولاقت أغنية المسلسل رواجا بين الحريديين المتزمتين حتى باتوا يتغنون بها في معظم أعراسهم. وانتشرت لافتات المسلسل في كل أحياء إسرائيل، وقد علِقت بعض العبارات التي قيلت في المسلسل في أذهان المشاهدين حتى باتت تجري على ألسنتهم.
واجتذب هذا النجاح اهتماما عالميا واسعا. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2018، بثته شبكة "نتفليكس" ليتابعه مشاهدون في مختلف أنحاء العالم، مصحوبا بالترجمة إلى الإنجليزية وغيرها من اللغات، وحقق المسلسل نجاحا كبيرا، مما حدا بفريق العمل بالمسلسل إلى التفكير في إنتاج موسم ثالث منه. وأعلنت المنتجة الأمريكية مارتا كوفمان أنها تعكف على إنتاج مسلسل "إيميز" النسخة الأمريكية من مسلسل "شتيزل" لصالح شركة "أمازون" للإنتاج السينمائي.
وتقول جيسيكا ستاينبرغ، كاتبة صحفية متخصصة في الشؤون الثقافية بجريدة "تايمز أوف إسرائيل"، إن التفاعل الكبير للجمهور الإسرائيلي مع مسلسل "شتيزل" يعود إلى تركيز المسلسل على مجتمع صغير مغلق يعيش بينهم، لكنه يثير اهتمامهم ويشد انتباههم، لا لأن أفراده يختلفون عنهم مظهرا وفكرا فحسب، ولكن أيضا بسبب تعاظم نفوذهم في السياسة المحلية."
وتضيف: "هذا المسلسل هو إطلالة على مجتمع نألفه، لكننا لا نعرف عنه شيئا. وأرى أن سبب شهرة المسلسل هو تناوله للعلاقات الاجتماعية والعاطفية بين أفراد طائفة الحريديم، التي تحكمها قواعد ومعايير مخلتفة نسبيا".
كما أثار هذا المجتمع المتزمت اهتمام الإسرائيلين بسبب النفوذ الكبير الذي يتمتع به المشرعون المتزمتون في هذا البلد الذي لا يمكن فصل الدين فيه عن الدولة، والذي يمنحهم حق اتخاذ قرارات في أمور مصيرية. ولهذا سلطت الكثير من المسلسلات والأفلام الإسرائيلية مؤخرا مزيدا من الضوء على حياة هذه المجتمعات من غلاة المتزمتين.
وتقول ستاينبرغ: "قد يستهجن الكثير من الإسرائيلين نمط حياة هذا المجتمع المتزمت، بسبب انغلاقه على نفسه ومعاداته للعلمانيين الإسرائيليين. وربما لاقى هذا المسلسل، الذي عرض تفاصيل حياة هذا المجتمع بجرأة ودون تزييف، اهتماما كبيرا من الإسرائيليين لأنه ساعدهم على فهم عالم طالما أثار فضولهم".
وقد تميّز مسلسل "شتيزل" عن سائر المسلسلات التليفزيونية التي تصور المجتمعات المتزمتة الإسرائيلية، لاهتمامه بأدق تفاصيل الحياة اليومية، مثل تصوير الممثلين وهم يؤدون الصلاة قبل تناول الطعام أو يلمسون المازوزة التوراتية التي يعلقونها على أبوابهم ثم يقبلون أيديهم قبل المرور من الباب.
ولعبت الرمزية والتنقل الزمني بين الماضي والحاضر دورا كبيرا في سرد أحداث المسلسل، وخير مثال على ذلك، الحوار الذي دار بين أكيفا وأبيه في طريقه إلى المدرسة. ويعد أكيفا أصغر أفراد عائلة شتيزل، ويعيش صراعا داخليا بسبب المشاعر المتضاربة التي تعتريه حيال العادات والمعايير الصارمة التي تحكم الزواج واختيار الزوجة في هذا المجتمع.
وتعرّض المسلسل بجرأة لبعض الموضوعات الحساسة التي قد يفضل الحريديون السكوت عنها، كما في اللقطة التي اعترفت فيها ابنة أخت أكيفا، المراهقة روشامي، التي كانت ترعى أخواتها لحين عودة أمها جيتي من العمل، أنها اضطرت إلى إرضاع أخيها الصغير من ثديها لإسكاته بعد أن ظل يبكي طيلة اليوم.
وبفضل هذا التعامل الجرئ مع القضايا الشائكة في المجتمع والأسلوب السردي الرائع، وكذلك الإنتاج المتقن للمسلسل، حصد الجزء الأول منه 11 جائزة في حفل الأكاديمية الإسرائيلية للأعمال الفنية.
لكن نجاحه خارج إسرائيل قد يعود إلى تناوله لموضوعات مشتركة تحرك مشاعر المشاهدين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، مثل العواطف الإنسانية كلهفة المحب واشتياقه.
ويقول أليسون كابلان سومر، في أحد المقالات التي كتبها عن شتيزل في جريدة "هآرتس"، إن طائفة الحريديم تواجه عددا كبيرا من العقبات والحواجز المترسخة في المجتمع التي قد يعجز كتّاب السيناريو عن إيجاد مثيل لها في الأفلام الرومانسية الساخرة.
وكتب: "اللافت في هذا المسلسل الرومانسي الناجح هو أن أحداثه تدور في مجتمع مغلق محاط بكل مظاهر الحداثة، لكنه لا يزال متمسكا بالقواعد الصارمة بحذافيرها. ففي هذا المجتمع لا يمكنك أن تحب أو تختار بنفسك شريكة أو شريك حياتك، وكثيرا ما تكون محاولاتك لتحقيق طموحاتك وأحلامك الشخصية محفوفة بالمخاطر".
واستقطب المسلسل مؤخرا جمهورا من المتابعين خارج إسرائيل. ودشن مجموعة من محبي المسلسل صفحة على موقع فيسبوك جذبت أكثر من 10 آلاف عضو منذ تأسيسها في يناير/كانون الثاني الماضي. وكتبت سيلاه مايا زيوبويم في إحدى الصحف الأسبوعية المعنية بشؤون المجتمع اليهودي في واشنطن عن انتشار ما أطلقت عليه "هوس شتيزل" بين اليهود الأمريكيين.
وتقول زيوبويم: "لا جدال في أن القصة رائعة وأداء الممثلين يجعلك تستغرق في القصة وتكاد تنسى خصلتي الشعر المنسدلتين على آذانهم أو شعورهم المستعارة. وربما يرجع ذلك إلى أن المسلسل يتناول قضايا عامة وليست دينية، كالحب والوداع أو غيرها من المشكلات التي قد يعاني منها أي شخص".
لكن السؤال الآن، هل سنحتاج حقا لنسخة أمريكية لمسلسل "شتيزل"؟ فربما تكون المسلسلات الأصلية بلغاتها المحلية هي كل ما نحتاجه الآن بعد اتساع نطاق الإرسال والبث العالمي للبرامج والمسلسلات التليفزيونية.انتهى