{بغداد:الفرات نيوز} م يكن هذا سوى مشهد واحد من الفصول المضطربة الطويلة التي مرّت بها المَدرسة البريطانية للآثار في العراق، والتي شهدت أياماً مزدهرة بازدهار العراق وعانت مع العراقيين أغلب مِحنهم، كما كانت شاهدة على نهب التراث الأثري العراقي.
ارتبطت هذه المدرسة بشخصيات مهمة في التاريخ البريطاني، كما ألهمت واحدة من أهم الأديبات الغربيات الروائية الشهيرة أغاثا كريستي، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، عن التاريخ المضطرب لهذه المدرسة التي عادت اليوم بشكل جديد.
الفكرة طرحتها المرأة التي صنعت العراق الحديث
في يومٍ مُظلم من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1929، أطلقت المدرسة البريطانية للآثار الناشئة في العراق دعوةً للحصول على تمويل. امتلأت الصالة المركزية في وستمنستر بالمملكة المتحدة عن بكرة أبيها، وشاهد الحضور عرضاً على ضوء المصابيح لآخر الاكتشافات في العراق، وتلت ذلك قائمةٌ طويلة من المتحدثين، بينهم أسقف كانتربيري ونانسي أستور، أول سيدة بريطانية تدخل البرلمان. كانت المدرسة البريطانية للآثار في العراق من بنات أفكار غيرترود بيل، وهي ضابطة وعالمة آثار بريطانية ساهمت في تشكيل حدود العراق الحديث، وحتى وضعت بصماتها على علمه، وكانت في الوقت ذاته السبب في تجميع هذا القدر من أعضاء طبقة النخبة البريطانية حسنة السمعة.
كانت الآثار محلّ شغف بيل الأول طوال حياتها، واشتهرت كذلك بحبها للسفر وعملها في الكتابة، وانخراطها في خيوط السياسة المتشابكة في العراق في ظل فترة الانتداب البريطاني وفي الشرق الأوسط بشكلٍ عام. ونشأت صداقة بين غيرترود بيل والسير بيرسي كوكس أثناء توليه منصب المفوّض السامي في العراق بداية حكم الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، وأسفر ذلك عن تولى السير بيرسي كوكس رئاسة مجلس إدارة المدرسة بعد وفاتها.
حظ عاثر منذ البداية.. سخاء الممولين يعصف به الركود العظيم
حين ماتت بيل عام 1926 تركت مبلغاً قدره حوالي 7 آلاف دولارٍ أميركي لأمناء المتحف البريطاني ليستخدموه في تأسيس المدرسة البريطانية للآثار في العراق. استهدفت الدعوة إلى التبرع التي انطلقت عام 1929 جمع مبلغ قدره حوالي 18 ألف دولارٍ آخرين ليتسنى بناء المدرسة، غير أنَّ توقيت الحملة لم يكن موفَّقاً؛ فقبل شهرٍ منها كان انهيار بورصة وول ستريت قد أدى إلى حدوث الكساد العظيم، وبحلول صيف عام 1931 وصل المبلغ إلى حوالي 12 ألف دولارٍ فقط. ومع ذلك، ومع بداية أفول الانتداب البريطاني على العراق، انطلقت المدرسة، وإن كان انطلاقها جاء على نطاقٍ أصغر مما كان مخططاً له في الأصل. تركزت الأهداف المعلنة للمدرسة على تمكين علماء الآثار والطلاب البريطانيين من العمل في العراق أو على المواد الأثرية العراقية، من خلال التمويل المباشر لعمليات التنقيب عن الآثار، ومن خلال تقديم منحٍ دراسية ومنحٍ للسفر. وتعثر عمل المدرسة خلال فترة ثلاثينيات القرن العشرين بسبب نقص التمويل اللازم للعمل في العراق، حتى توقَّف العمل فيها تماماً بفعل الحرب العالمية الثانية. وساعدت المدرسة علماء الآثار العراقيين في نشر أعمالهم من خلال مجلتها التي حملت اسم «العراق»، دون نشر الأعمال الميدانية الخاصة بها.
ثم جاء الإنقاذ من البرلمان لتبدأ مرحلة أغاثا كريستي
ابتسم الحظ في وجه المدرسة في السنوات التي تلت الحرب. ففي عام 1946، تلقت أول تمويل حكومي، وفي عام 1947 صوَّت البرلمان البريطاني لصالح منحها حوالي نحو 5 آلاف دولار أميركي، وهو مبلغ سمح لها أخيراً بشراء منزلٍ في بغداد وتهيئة أوضاعها على نحو ملائم. وعُيِّنَ السير ماكس مالوان أول مديرٍ لها، وعلى الفور أقام في المنزل، برفقة سكرتيرة له وستة طلّاب وزوجته الأكثر شهرة أغاثا كريستي.
لا تزال كريستي مشهورةً في عالم الآثار لكتابتها رواية الجريمة المتعلقة بالآثار Murder in Mesopotamia. وقضى مالوان والمدرسة البريطانية العقد التالي في التنقيب عن الآثار في العاصمة الآشورية العتيقة في نمرود، التي لحقها دمارٌ جزئي على يد مسلحي داعش عام 2015.
وعاشت سنوات من الازدهار
ظلت المدرسة منهمكةً طوال ستينيات القرن العشرين بالحفريات الجديدة في تل الرماح وتل الطايع. وانتقلت المدرسة إلى مقرٍ آخر أكبر وأفضل في بغداد، وبحلول سبعينيات القرن العشرين كانت تستضيف حوالي 70 طالباً وباحثاً سنوياً. وبالإضافة إلى عمل المدرسة في تنفيذ برنامجٍ مكتظ للتنقيب عن الآثار، كانت أيضاً منارةً لمجموعةٍ متباينة من الزوار والدبلوماسيين الأجانب، ونقطة تواصل تعج بالحيوية بين علماء الآثار العالميين والعراقيين. بل إنَّ مكتبة المدرسة ربما كانت أفضل تشكيلة من الكتب في الشرق الأوسط تتناول آثار بلاد الرافدين، بالإضافة إلى احتوائها مجموعةٍ مختارة ممتازة من أدب الجريمة. كانت بغداد في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين مدينةً مزدهرة وعصرية ومفعمة بالحيوية، وكانت الحياة في مدرسة الآثار البريطانية في العراق ثريِّةً ومثيرة.
إلى أن جاء حكم البعث فقرر إغلاقها ولكن ظل هناك تعاطف كامن معها
غير أنَّ أزمة ما كانت تلوح في الأفق؛ ففي عام 1968 استولى حزب البعث على السلطة، وبدأت الحياة تزداد صعوبةً على العراقيين والأجانب على حد سواء. وفي عام 1973، صدر قانونٌ جديد يُلزم جميع المدارس الأجنبية بإعادة تسجيل أوراقها؛ وحين تقدمت المدرسة البريطانية للآثار في العراق بأوراقها رفضت الحكومة تسجيلها كما كان الحال مع معظم المدارس الأخرى، وأُغلِقَت المدرسة رسمياً. وأقنع نيكولاس بوستغات، مدير المدرسة آنذاك، وزارة الآثار العراقية التي كانت متعاطفةً مع المدرسة بالسماح لها بمواصلة العمل تحت اسمٍ جديد. نقلت المدرسة مقرها إلى مكانٍ جديد، وواصلت عملها تحت اسم البعثة الأثرية البريطانية في العراق. وفي عام 1976، تُوفيِّت آغاثا كريستي، وأقامت لها مدرسة الآثار البريطانية في العراق تأبيناً مهيباً في مقرها في لندن. وظل شبحها يجول في مقر المدرسة في لندن، وظلت حاضرةً في بعض تفاصيل المكان، مثل كرسيّ المرحاض الذي كانت قد ثبتته بحيث لا تضطر إلى أن تجلس القرفصاء على ضوء مصابيح الموقع. ولسوء الحظ أنَّ كرسي العرش هذا، الذي كان مزوّداً بمقعد مرحاض مستورد خصيصاً، ضاع في غمرة الأحداث، إذ أحرقه أحد أعضاء فريق التنقيب دون قصدٍ أثناء احتفالات ليلة غاي فوكس في أواخر سبعينيات القرن العشرين.
ثم انغمست في عمل ميداني ذي نطاق أسطوري وعمالها غمرتهم المياه
وفي عام 1977، بدأت مرحلةٌ جديدة مكثفة من العمل الميداني في المدرسة، دُشنت ببرنامجٍ لتشييد سدٍ كبير في جنوب العراق.
ودعت وزارة الآثار العراقية الفرق الأجنبية إلى القيام بأعمال حفريات إنقاذ في مناطق شاسعة كان من المتوقع أن تغمرها الفيضانات، وهرولت المدرسة لتلبية الدعوة. وكان العمل الميداني، إذا ما قورن بالمشروعات الحالية، ذا نطاقٍ أسطوري، إذ كانت الفرق تمكث في الميدان لمدةٍ تتراوح من ستة أشهر إلى تسعة أشهر كل عام، وتوظف عدداً كبيراً من العمّال المحليين.
كان العمل شاقاً، وفي بعض الأحيان خارج نطاق التوقعات؛ ففي إحدى المرات قررت السلطات العراقية اختبار سد أسكي بالموصل دون إخبار أي أحدٍ مسبقاً، ما يعني أن القرويين وعلماء الآثار وجدوا نفسهم في نفس الحالة من الاضطرار للعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه والهروب من موجة المياه المتصاعدة بسرعة.
وبعد ذلك رأوْا الصواريخ الإيرانية بأعينهم ووقفوا في طوابير الخبز
وشكلت الحرب العراقية الإيرانية تحدياتٍ وأخطارٍ جديدة في حقبة ثمانينيات القرن العشرين. كانت المؤن الغذائية في حالةٍ من العشوائية، ووجد موظفو المدرسة أنفسهم مضطرين إلى الوقوف في طوابير كالآخرين للحصول على المواد الغذائية الأساسية مثل البيض والخبز.
وكانت الحياة صعبةً في المدرسة في ظل غياب اتصالاتٍ دبلوماسية وغياب من يقوم على إصلاح شؤونها؛ إذ لم تكن فيها مياهٌ جارية وشهدت حالات انقطاع متكررة للكهرباء. وأصبحت المدرسة المتداعية مستقراً للأثاث المتهالك والعناكب والنمل الأبيض والبراغيث. وكان بوسع موظفي المدرسة أن يشاهدوا من فوق السطح سقوط صواريخ سكود الإيرانية في قلب ضواحي بغداد.
وكانت الحياة مقيدةً أكثر من أي وقتٍ مضى؛ فكان من الخطر حمل خريطةٍ أو كاميرا، وكانت سلطات الرقابة العراقية تفتح جميع الرسائل وتقرأ ما فيها، وتعرض الوزير العراقي الذي كان يقيم في المنزل المجاور للمدرسة إلى الاغتيال بعد أن غضبت عليه السلطات. ولم يعد علماء الآثار العراقيون يزورون المدرسة، وإن كان موظفوها لم يتوقفوا عن تمرير الكتب والمجلات إليهم كلما أمكن.
ووقعت حرب الخليج الأولى فغيرت مقرها ومهمتها
وكانت حرب الخليج الأولى التي اندلعت عام 1990 نهاية النشاط الأجنبي في مجال الآثار في العراق. أغلقت المدرسة البريطانية أبوابها في بغداد على أمل عودةٍ قريبة، ونقلت أعمالها الميدانية إلى سوريا والبحرين، لتبدأ فترة تغيرٍ جذري في أهداف المدرسة. ضرب الفزع أوصال المدرسة بعد موجة نهب الآثار الأولى التي شهدها العراق بعد فرض العقوبات عليه في منتصف تسعينيات القرن العشرين، لتجد المدرسة نفسها في أتون ما كانت تتوقع له أن يصبح أزمةً تراثية متصلة. وبدلاً من توجيه التمويل المقدم إلى الطلاب البريطانيين للذهاب إلى العراق، بدأت المدرسة تمول العراقيين ليذهبوا إلى الدراسة في بريطانيا. وأرسلت المدرسة كتباً أكاديمية ودوريّاتٍ إلى الجامعات العراقية، التي انقطعت عنها المنح الدولية، وموَّلت أعمال ترميم في متحف العراق.
كارثة مزدوجة بعد الغزو الأميركي نهب لآثار العراق وتقليص للميزانية
وبعد الغزو الأميركي عام 2003، دشنت المدرسة جهداً كبيراً لجمع التبرعات للمساعدة في إنقاذ التراث العراقي، وأضافت هدفين إلى قائمة أهدافها: مساعدة الزملاء في العراق، وإطلاع الرأي العام على ما كان يحدث في العراق ويلحق بتراثه الثقافي وإشراكه في إنقاذ هذا التراث. وفي أوج موجة النهب التي انتشرت في مرحلة ما بعد صدام، ضربت كارثةٌ المدرسة. منذ أول منحة برلمانية حصلت عليها عام 1946، بدأت المدرسة تعتمد اعتماداً متزايداً على الدعم الحكومي بدلاً من مؤسساتها والاشتراكات التي تجمعها. وبحلول بدايات القرن الحادي والعشرين، كان اعتماد المدرسة الأكبر على منحةٍ سنوية ضخمة من الأكاديمية البريطانية، بيد أنَّ نموذج منح مبالغ ضخمة للمدارس والجمعيات بدلاً من استهداف مشروعاتٍ محددة كان قد بدأ يخرج من دائرة الاستحسان؛ إذا كانت المؤسسات التي على شاكلة المدرسة تمثل شيئاً من عبق الفترة الكولونيالية، وكانت في نظر البعض عتيقة، بل وذات أهدافٍ ضيقة. فقللت الأكاديمية البريطانية دعمها على مدار نهاية القرن العشرين، ثم قلصته إلى النصف عام 2007، وسحبته بالكامل عام 2009.
وأحبطتها تجاهل الحكومة البريطانية لسرقة الآثار بل إنها سحبت الدعم من المنظمات التي تحاول إنقاذه
أصيبت المدرسة بحالةٍ من الإحباط الكبير، وهي تشاهد الحكومة البريطانية التي لم تحرك ساكناً لوقف أعمال النهب والعبث بالمواقع الأثرية والمتاحف العراقية تسحب الدعم عن المؤسسات البريطانية القليلة التي كانت تتخذ خطواتٍ حيال هذا الأمر. ووجدت المدرسة البريطانية للآثار في العراق نفسها في مواجهة خطر الانقراض بعد 75 عاماً من العمل، في وقت تشارك فيه بريطانيا في الغزو الذي ثبت فيما بعد عبر تقرير حكومي رسمي أنه استند إلى معلومات استخبارية خاطئة وأسس قانونية مشكوك بها. غير أنَّ المدرسة لم تمت، بل نجحت في إعادة تشكيل نفسها، وفي عام 2007 أعيد تأسيسها تحت اسم المعهد البريطاني لدراسة العراق (BISI)؛ ولم تعد مقتصرةً على الآثار والتاريخ، ولم يعد تركيزها منصباً على تيسير عمل علماء الآثار البريطانيين، ولكن على الترويج للتراث والثقافة العراقيين، ومساعدة المختصين في التراث من العراقيين من خلال المنح الدراسية وبرامج المساهمة والزمالات. وبشق الأنفس تمكنت المدرسة أخيراً من التعافي من الأزمة المالية، ولو جزئياً على الأقل، من خلال الجمع بين تجميع التبرعات وتسييل الأصول وتلقي دعمٍ كبير من المتحف البريطاني. وواصل المعهد العمل، ولو على مستوًى أقل، بعد أن سُمِحَ له بالاحتفاظ بمكان عمله داخل الأكاديمية البريطانية.
واليوم تعود بشكل جديد وتسهم في إنشاء متحف البصرة
والآن، وبعد مرور 10 أعوام، رسخ المعهد دعائمه. واست0فاد 4 باحثاً عراقياً من برامج الزمالات الزائرة إلى المملكة المتحدة، وينظم المعهد باستمرار فعالياتٍ للترويج للثقافة العراقية. وأدى المعهد دوراً مهماً في إعادة علماء الآثار الدوليين إلى العمل الميداني في العراق بعد فجوةٍ امتدت لأجيال. وأدى المعهد دوراً رئيسياً في تأسيس متحف البصرة الجديد، الذي افتتح قبل أشهرٍ قليلة بروحٍ تشبه كثيراً روح بيل التي أسست بنفسها متحف العراق في بغداد. غير أنَّ كل هذا لم يكن ليتم لولا وجود شبكةٍ من الاتصالات وحسن النية على مدار سنوات عمل المدرسة. وبالرغم من أنَّ المدرسة لم تعد تشارك في مشروعات التنقيب واسعة النطاق كسابق عهدها، فإنَّ المنهجية الحالية التي يتبعها المعهد، وتولي تركيزاً أكبر لمساعدة الناس وتراثهم وتركيزاً أقل على إقامة حُفر كبيرة في المواقع الأثرية، تمثل ما يحتاجه التراث العراقي على المدى القصير والمتوسط. صحيحٌ أنَّ المدرسة البريطانية للآثار في العراق التي تأسست على يد غيرترود بيل قد شهدت الكثير من الأحداث المؤسفة منذ إنشائها عام 1926، لكنَّ الحياة ما زالت تدب في أوصالها، وربما باتت أكثر ملائمةً للواقع من أي وقتٍ مضى.