إذا أردنا معالجة مشكلة معينة بحلول واقعية ومنطقية، فعلينا في بادئ الأمر معرفة أسباب ومقدمات تلك المشكلة حتى نتمكن من الدخول في ثغراتها ومعالجتها بالصورة الصحيحة والطريقة المطلوبة. نسمع دائمًا ويُشاع في أوساطنا أن الزمان تغير والناس لم يعودوا بمستوى الأيام الخالية والأحوال السابقة، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية سبباً ميسراً لفسادهم وخروجهم عن صوابهم الإنساني الذي يمتلك ثنائية (العقل والعاطفة) والتي تميز بها الإنسان عن باقي المخلوقات. فيما يلاحظ التعاطف الكبير مع هذه الفكرة خاصة لدى معارضي العقائد وذلك لتغير الزمان وتغير بعض الأعراف مع الزمان، مما أثر ذلك على الموضوع الرئيس.
بالتأكيد لا يمكن الجزم بأن الفساد والانحلال في هذا الزمان هو أكثر من باقي الأزمنة أو هو أقل من الأزمنة القادمة، فالتجربة التاريخية وسنة الزمان علمتنا أن في كل زمان هناك صالح وطالح كما كان في وقت آدم وأولاده هابيل وقابيل، إلى عهد الذين عادوا خصوم الإسلام، أهل البيت (عليهم السلام)، حتى وقتنا الحاضر إذا كانت فيه الأطراف المؤمنة والعاصية. للمثال، عندما يقال أن الفساد أصبح في هذا الزمان أكثر من غيره، أين القائل من تاريخ العراق في القرن المنصرم، إذ بدأ انتشار الأفكار الضالة والدعوات للانفتاح الفكري والمجتمعي في أوساط البيئة العراقية، مما أدى إلى أن يأخذ مراجع الشيعة آنذاك على عاتقهم إصدار فتوى واضحة ورصينة لنبذ الاتجاهات الفكرية المنحرفة والوقوف أمامها دون مجاملة؛ وتأسست عدة حركات تبليغية وتثقيفية حينها لمواجهتها ومجابهتها، حيث قال الله في محكم كتابه: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ". وهذا واجب شرعي لا يمكن التهاون فيه أو التقصير في أدائه.
وعندما نرى أبعد من ذلك نلاحظ أن تاريخ العالم وعلى مختلف العصور كان مليئاً بالسلوكيات غير الأخلاقية المنحرفة مواجهًا في المقابل، جبهة الإصلاح والمعرفة، التي تسعى لدحضها وإعلاء صوت الحق.
فمن الأمور الرئيسية التي يستند إليها البعض، أن انتشار أفكار وسلوكيات (الشذوذ الجنسي) في الوقت الحاضر هي غير مسبوقة وأنها دلالة على الانحطاط الأخلاقي والفكري للبشرية واختفاء محور الصلاح والإحسان أو إخفات وهجه، متناسيًا بأن أصل السلوكيات الشاذة كانت عند قوم لوط (ع)، ولكن ما اختلف هو أن العالم كان قرية صغيرة والآن أصبح قرية كبيرة. وإذا لم تكن هذه السلوكيات معروفة ومنتصرة في السابق، فلماذا كان تحريمها من أهم البنود التي نصت عليها الديانات السماوية آنذاك؟ كما وأنه من الطبيعي أن كل شخص لم يعش ولم ير الأزمنة السابقة يتصور أن ما وقع في زمانه (فسادًا كان أو صالحًا) هو الأكثر شدة على مر العصور. فكثير من المفكرين السابقين كانوا يكتبون في كتبهم أن "ظهر الفساد في البر والبحر"، وكان علماء آخرون جاءوا بعدهم بمئات السنين يردون على ذلك بارتفاع وتيرة الفساد في زمانهم، وعلى هذا المنوال حتى زماننا هذا.
إلى ذلك، يعتبِ بعضهم أن التكنولوجيا هي العنصر الأساسي الذي جعل الفساد الأخلاقي أسهل وأكثر انتشارًا من السابق مما يميز زماننا هذا عن باقي الأزمنة. والرد على ذلك يكون من خلال عدة نقاط، وهي كالتالي:
1- لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) ساعدت عملية الفساد الأخلاقي والمجتمعي إلى حد كبير، ولكن في ذات الوقت أصبحت هذه الوسائل بابًا لنشر الدين والثقافة والمحاضرات العقائدية والدينية وغيرها من المواد المثمرة، من خلال المقاطع والمنشورات والصفحات المهتمة بهذا الشأن.
2- هنالك دور كبير للتكنولوجيا في نشر العلم والتعلم بين شتى وأبعد نقاط العالم، حيث كانت الجامعات التي تمنح الشهادات من خلال الدراسة بطريقة الأونلاين وغيرها من السبل التي تسهل للمتلقي الوصول إلى المعلومة والحصول عليها. ينقل أن مؤلف كتاب الكافي، الشيخ الكليني (قدس سره)، استغرق 20 عامًا لجمع المصادر والعلوم حتى تمكن من تأليفه والذي قال فيه الإمام الحجة (عج): "كاف لشيعتنا". ولكن الآن وبكل سهولة يمكن لأي شخص الوصول إلى المعلومة والمصادر المرجوة من خلال الشبكة العنكبوتية والمصادر الرقمية وبجهد أقل مما يمكن من الوقت.
3- وبعد تطور التقنية حتى وصلت إلى صناعة عقل ذكي غير بشري باسم (الذكاء الاصطناعي)، حيث يدعونا ذلك إلى استثماره وزجه بالمصادر الموثوقة لكونه يعتمد في بحوثه على مصادر الشبكة العنكبوتية، ومن المؤسف ملاحظة إغراق الإنترنت بالمصادر غير الصحيحة مما يساعد على تشويه الحقيقة وتحليلها بصورة غير دقيقة في بعض الأحيان. ولكن إذا تم إغراق الإنترنت بالمصادر السليمة فسيقلل ذلك من احتمالية الإغواء والخطأ الموجودة في الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد اعتماد البعض بصورة وثيقة على المعلومات والتحليلات الصادرة منه.
4- تقول الدراسات، أن التطور العلمي الذي حصل من عام 2010 – 1980 يضاهي التطور العلمي منذ بداية البشرية حتى عام 1980. ومن المستغرب ملاحظة، أن العالم الإسلامي كان مستهلكًا، غير منتج للتكنولوجيا؛ وذلك اعتقاده بأنها آلة لإفساد واندحار المجتمع في حينها، وهذا ما أتاح للغرب أن يغرقه بمصادره وأفكاره ورؤاه، وعندما أصبح استخدامه أمرًا واقعًا، جئنا على استعمال أداة هي صنيعة الغرب ومغروسة بأفكاره. الخطأ الذي يجب ألا يتكرر في الذكاء الاصطناعي وألا يُعَتَّبَ أداة للفساد وأن يُخلق منه أداة للصلاح والهداية والمعرفة، من خلال السبل المذكورة أعلاه. أي علينا إتقانه والسيطرة عليه لنكون منتجين للعلم ومصدرًا للحضارة الإسلامية لا مستهلكين لحضارات وعلوم أخرى. استنادًا إلى ذلك، يستنتج أن سهولة الفساد من خلال التكنولوجيا تعود إلى قصور العالم الإسلامي في السيطرة عليها وزج مصادره فيها وبقاءه مستهلكًا للبضاعة والفكر والأسلوب الغربي.
الصراع القائم في العالم هو صراع حضارات، وكل من الحضارات إما تريد أن تفرض حضارتها أو تثبت فشل غيرها، لكون الفرق بين الحضارة والثقافة أنها تركز على الجوانب المادية (الطعام، الملبس، التقنية، الصناعة، الزراعة) عكس الثقافة (العقيدة، القيم، المظاهر) التي تركز على الجانب الروحي. كما وأن الحضارة تستنبط من الثقافة، لكون الثقافة تعطي الأسس الأخلاقية والحضارة تصدر علمًا ومادة في إطار متناسق مع تلك المبادئ الأخلاقية. وهذا ما تسعى إليه دول محور الشرق مثل الصين وروسيا وإيران في مجابهة الثقافة الغربية، حيث نلاحظ أن الصين تنتج نموذجًا مغايرًا وعابرًا للذكاء الاصطناعي الغربي بـ 5.7 مليون دولار وبعدد 200 موظف فقط، موقعة خسارة فادحة على المؤسسات التكنولوجية في العالم لما يقارب 2 تريليون دولار أمريكي.
إضافة إلى ذلك، من الضروري أن يتم إدخال أساليب التعامل مع الذكاء الاصطناعي وفنونه في المناهج التعليمية منذ المدارس إلى الجامعات وأن يكون منهجًا من مناهج التعليم كما هو الحال للرياضيات والفيزياء وغيرها من الدروس، لخلق أجيال واعية وعارفة بكيفية استخدام العقل الذكي واستثماره خير استثمار دون أن يكون له تابعًا ومسلوبًا، وألا يعتمد عليه اعتمادًا جذريًا وكاملاً. قال الله في كتابه المبين: "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا"، وانطلاقًا من هذا المبدأ علينا أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتدال. أي لا نتبع لكل ما يصدره منه ونجعله مصدرًا للأقاويل. وفي ذات الوقت لا يتم نبذه من الحياة ليطوره غيرنا. بل يُتقن إتقانًا تامًا ليكون صنيعة أيادي المسلمين، مقننين التعامل والتعاطي معه، حتى يكون العالم الإسلامي جزءًا لا يتجزأ من منتج الحضارة بحلتها الجديدة للعالم أجمع. قال رسول الله (ص): "إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، فلذا علينا أن نشحذ الهمم وأن نكرس رؤوس الأموال الكبيرة لتحويل ثقافتنا الإسلامية إلى حضارة منتجة للعالم وأن نصبح في ركب المصدرين لا المستهلكين؛ للسيطرة على من أراد السيطرة علينا من خلال الأدوات الحضارية والفكر الثقافي.